عمارة السعادة.
- Raghad
- 7 أكتوبر 2021
- 3 دقيقة قراءة

ما الذي يجعل مبنى ما جميًلا دون غيره؟
في كتابه (The Architecture of Happiness) يأخذنا آلن دو بوتون في رحلة عن الجوانب الفلسفية والنفسية للعمارة، والتي تهدف لتغيير منظورنا الشخصي تجاه منازلنا وشوارعنا وبيئتنا المحيطة.
يبدأ الكتاب بسرد أجواء منزل ريفي في ضواحي لندن، أشعة الشمس وضوضاء الصغار، الأثاث العتيق والجدران الملطخة.
بالنسبة لمستر بوتون، فإن المباني لها أمزجتها الخاصة، وتوجه إلينا دعوة لنكون شخوصًا مختلفة داخلها.
" أعمال التصميم والعمارة في جوهرها تتحدث إلينا بنوعية الحياة التي يمكن أن تنشأ من حولها وفيها" -آلن دو بوتون.
ويكمل في أحد الأسطر:
" من الأمور الهامة وغير المذكورة غالبًا والتي إما أن تتسبب بسعادتنا أو تعاستنا هو جودة محيطنا، الجدران والكراسي والمباني والشوارع المحيطة بنا".
يشدد بوتون في كتابه على أن الإيمان بأهمية العمارة يقوم على فكرة أننا أشخاص مختلفون في أماكن مختلفة وعلى الإقتناع بأن وظيفة العمارة ليس بتوفير المأوى فحسب وإنما إخراج أفضل مافينا كأفراد.
الكتاب يصور العلاقة الحميمية بيننا وبين مبانينا، ويطرح أسبابًَا لِمَ بعض المباني تجذبنا دون غيرها،
كذلك يذكر كيف أن التعلق المبالغ به بجمالية العمارة له جوانب إشكالية أيضًا.
إذا كان بإمكان غرفة واحدة أن تؤثر على مزاجنا، وكانت سعادتنا معلّقة على لون ذاك الجدار أو شكل هذا الباب، فماذا سيحدث لنا في الأماكن التي تُجبَر أعيننا على النظر إليها لفترات ليست بالقصيرة والسكن فيها؟
تحدثتُ عن مسألة العمارة والصحة النفسية بتفصيل في هذه المقالة.
يقول بوتون في إحدى الصفحات:
"نشعر ببهجة عارمة حين نرى تعقيدًا أضفت عليه العبقرية مظهرًا من البساطة."
“We delight in complexity to which genius has lent an appearance of simplicity.”
وهي عبارة أجدها أنيقة للغاية وتبرز فلسفة عمارة الحداثة بأن بساطة مبنى ما لا تعني افتقاره للجمال.
أحد الفصول في كتابه يطرح عدة محاور على المبنى الجميل تحقيقها; النظام،الاتّزان، الأناقة والتماسك.
ويعتقد بأن الأساليب المعمارية المفضَّلة سواء كانت الكلاسيكية أو الحديثة تختلف من عصر لآخر باختلاف احتياجات الناس وأنماط عيشهم.

تتجلى براعة بوتون في سرده الرائع ووصفه للعلاقة الإنسانية بالعمارة، لم أتوقع قط أن تكون لآلن هذه المعرفة الواسعة بهكذا مجال، أذكرُ قراءتي لكتبه الفلسفية الأخرى -عزاءات الفلسفة ، قلق السعي إلى المكانة- والتي كانت ممتعة بنفس القدر.
بالنسبة لبوتون، فإن العمارة-أكثر من أي شكل فني آخر- تدعو إلى نوع من الاستجابة الشخصية نحوها.
وكما كتب هو:
" إن ما نبحث عنه في عمل معماري ليس ببعيدًا عما نبحث عنه في صديق."
“What we search for in a work of architecture is not in the end so far from what we search for in a friend”
جدير بالذكر أن سيد بوتون لا يتجاهل أهمية التوازن والوضوح في الهندسة المعمارية، بذكره لمسألة الشكل والوظيفة form and function. حيث أن تغليب الجمالية على الوظيفية أو العكس ليس بمسعى جيد بالضرورة. الاتزان بين الأمرين يقتضي نجاح التصميم.
"العمارة السيئة هي بمثابة إخفاق في علم النفس بقدر ماهي فشل في التصميم."
“Bad architecture is in the end as much a failure of psychology as of design.”
ويذكر كيف أن هوسنا المزمن بجمالية العمارة قد يحولنا إلى أشخاص جماليين بشدة Aesthetes.
غريبي أطوار يراقبون منازلهم بيقظة كحارس متحف، يدورون جيئة وذهابًا في غرفهم بحثًا عن البقع وحاملين قطعة قماش في أيديهم. هؤلاء الجماليين التعيسين عند تناولهم للعشاء برفقة الأصحاب لن يستطيعوا التركيز على المحادثة الجارية لأن وساوسهم تجعلهم يركزون فيما لو استند رأس أحدهم على الجدار وخلّف بقعة فيه. وبالطبع لن يكون لهم صبرٌ على رفقة الصغار، فالأخيرين عفاريت بالنسبة لهم. هذا ليس بصحي البتة.
قد يبدو للقارئ أن سعي بوتون مثالي وغير واقعي. لكنني حسبما فهمت من رسالة الكتاب أنها تشجع الأفراد على إيلاء المزيد من الاهتمام للعواقب النفسية للتصميم وتشجعنا على أن ننظر بعناية إلى محيطنا المعماري ونحسّنه لينعكس إيجابًا علينا ويوفر لنا الرفاه والسعادة.
أفكار كهذه يمكنها أن تلهم معماريو المستقبل بأخذ النظام والبساطة والانسجام في الاعتبار، لا الاهتمام فقط بالشكل والمواد.
في مقالته "حول التحول" (1916) ذكر سيغموند فرويد المشي الذي قام به في جبال الدولوميت مع الشاعر البوهيمي راينر ريلكه. لقد كان يوما صيفيا رائعًا،الزهورُ مزهِرة والفراشات الملونة الزاهية ترقصُ فوق المروج. كان المحلل النفسي مسرورًا بالبقاء في الهواء الطلق بعد أسبوع كئيب ممطر، ولكن رفيقه كان يمشي وعيناه مثبتتان على الأرض، وظل يتحدث بلباقة طوال الرحلة.
لم يكن السبب أن ريلكه كان غافلاً عن الجمال من حوله؛ ولكن على حد تعبير فرويد، كان ريلكه غير قادر على إزالة فكرة عالقه في ذهنه وهي أن كل هذا الجمال مآله الانقراض، وأنه سيختفي عندما يأتي فصل الشتاء، مثل كل الجمال البشري وكل الجمال الذي خلقه الإنسان أو قد يخلقه...
تعليقات