العمارة والذكاء الاصطناعي: حقبة جديدة
- Raghad
- 13 أغسطس 2022
- 6 دقيقة قراءة
تاريخ التحديث: 26 أغسطس 2022
من استخدام الوحدات التكرارية والتصميم بمساعدة الحاسوب والبارامترية إلى الذكاء الاصطناعي، هذه هي الأمور الأربعة التي شكَّلت كيفية ممارستنا للعمارة خلال المائة عام الماضية. ويُمثل الذكاء الاصطناعي آخر هذه التطورات وأكثرها إثارةً.
ولعل السؤال الذي يدور في ذهن المهندسين المعماريين حاليًا هو: هل سيتم تهميشُنا من قِبل تقنيات الذكاء الإصطناعي؟ وهل سيكون قادرًا على تصميم مختلف أنواع المبانِ ملبيًا احتياجات العميل بصورة مُثلى؟ هل…سيستحوذ على الجزء الإبداعي من المهنة؟
ولكنّي في هذا المقال لن أنظر بشكل سلبي لهذه التقنية مخافةً أن تحتل مكاني في المستقبل، فهذا احتمال بعيد جدًا -كما آمل-. محط تركيزي سيكون في تخيُّل ومناقشة الإمكانيات الهائلة والتطبيقات الممكنة للذكاء الاصطناعي في العقود القادمة.
ماهو الذكاء الاصطناعي؟
لا شك أن الذكاء الاصطناعي يفتح حقبة جديدة جذرية في التصميم المعماري. ولكن لنفهم هذه التقنية الثورية، دعونا نعود لزمن ولادتها.
في الخمسينيات من القرن العشرين، وتحديدًا عام 1956، اخترع عالِم الرياضيات الأمريكي جون مكارثي مفهوم الذكاء الاصطناعي، معرفًا إياه ”استخدام الدماغ البشري كنموذج لمنطق الآلة“.
بأبسط العبارات، يشير مصطلح الذكاء الاصطناعي (AI) إلى الأنظمة أو الأجهزة التي تحاكي الذكاء البشري لأداء المهام والتي يمكنها أن تحسن من نفسها استنادًا إلى المعلومات التي تجمعها.
بدلًا من تصميم نموذج حتمي،أي إنشاؤه لعدد محدد من المتغيرات والقواعد، الذكاء الاصطناعي يتيح للكمبيوتر إنشاء عوامل متغيرة Parameters تدخل ضمن النموذج، إما من قاعدة البيانات التي تم جمعها أو البيانات المُرسلة بواسطة المستخدِم.
بمجرد إتمام الآلة لـ”مرحلة التعلم“ فيمكنها توليد حلول ونتائج تحاكي التوزيع الإحصائي للمعلومات التي تم تدريب الذكاء الاصطناعي بها أثناء مرحلة التعلم. وهذا المفهوم بالذات يعتبر جوهر النقلة النوعية التي أحدثها الذكاء الاصطناعي في مجال الحوسبة.
لم يقدِّم هذا المجال نتائج مُبشّرة حتى مطلع التسعينيات، وذلك بظهور نوع جديد من النماذج يكشف عن مجال ثانٍ لإمكانيات الذكاء الاصطناعي: الشبكات والتعلم الآلي Machine Learning. بفضل استخدام النماذج ذات الطبقات، والتي تسمى الآن بـ ”الشبكات العصبية الاصطناعية ANN“ حيث تحاكي بنية الشبكات العصبية في الدماغ البشري. أصبحت هذه النماذج قادرة على استيعاب تعقيدات أعلى من سابقتها، حيث يمكن تدريبها أو بالأحرى جعلها تؤدي مهامًا محددة.
من بين العديد من الابتكارات المستوحاة من هذه المنهجية، تعتبر الشبكة التخاصمية التوليدية Generative Adversarial Network (GAN) أكثرها ترشيحًا لتكون أداة ذات عون في الهندسة المعمارية.في عام 2014 وضعَ أساسها لان غودفيلو Ian Goodfellow الباحِث في Google Brain. بكلمات بسيطة، يمكن لنموذج GAN توليد صور من خلال الشبكات العصبية مع ضمان مستوى الدقة عبر حلقة مراجعة ذاتية.
حوّل بحث غودفيلو هذا الذكاء الاصطناعي من أداة تحليلية إلى أداة توليدية، وبالتالي قرّبه أكثر من الاهتمام المعماري: التصميم وإنتاج الصور.


الذكاء الاصطناعي في العمارة: التقنيات التوليدية
يُمثل الذكاء الاصطناعي موجة جديدة في بحر التكنولوجيا وليس اضطرابًا، فهو يكمِّل ممارستنا المعمارية من خلال مساعدتنا بتعزيز خبراتنا المعمارية والتعبير عنها بشكل أفضل. تتزايد الأبحاث الأكاديمية والفردية يومًا بعد يوم لتُسرع من تطور تقنيات هذا المجال. أحد هذه التقنيات المثيرة للاهتمام التي تطورت حديثًا، هي تقنيات الذكاء الاصطناعي ”التوليدية“ generative AI -أي القدرة على توليد الأشكال وليس فقط تحليلها- فعلى مدى الأربع سنوات الماضية، فتحت آفاقًا جديدة للتجارب.
تمثل الشبكات الخصومية التوليدية (GANs) -لأسميها جان من الآن فصاعدًا- أحد المجالات الواعدة، حيث أن هذه النماذج قادرة على تعلُّم تكرار الظواهر ذات الدلالة الإحصائية الموجودة ضمن البيانات المقدمة لهم.
إن جان تتميز عن باقي تقنيات الذكاء الاصطناعي بقدرتها على الجمع بين نموذجين؛ المولِّد، والمُمَيِّز. ولكي نجعل الأمر أسهل للاستيعاب، جان تُمثِّل المعلِّم والطالب في آنٍ واحد. يسعى الطالب (المولّد) جاهدًا إلى توليد الصور، ويقوم المعلم (المُمَيِّز) بتقييم كل صورة جديدة أنشأها الأخير وإعطائها درجة. هذه الدرجة تكون بمثابة تقييم لمدى تشابه الصورة الجديدة بالصور الموجودة في مجموعة التدريب. وبناءً على هذه النتيجة، سيتكيّف المولّد للحصول على نتائج أفضل. هذه المواجهة المستمرة بين المولد والمميز هو سبب تسميها بتخاصمية Adversarial. وبالتالي، سيقوم النموذج بتطوير قدراته تدريجيًا عبر توليد صور اصطناعية ذات صلة بمجموعة التدريب.

والآن، بعدما تعرفنا على جان، رأينا أنها تحمل إمكانات هائلة لنا، ولهذا السبب من الضروري تدريبها بحكمة. إن تنسيق قاعدة بيانات الصور التي سيتم تدريب النموذج عليها يتيح لنا إمكانية التحكم في نوعية المعلومات التي سيتعلمها النموذج. كمثال، إذا تم تدريب نموذج على مجموعة كبيرة من صور القطط، فإن هذا النموذج لن يُولّد لك صورة مبنى تخُيلي، بل قط لطيف.
جديرٌ بالذكر أن هذه الأنظمة وغيرها غير محصنة ضد الأخطاء الفادحة إن لم يتم توجيهها. وبالتالي، سيظل الحسّ المعماري لدينا هو العامل الحاسم في تقييم جودة بيانات التدريب وجودة النتائج. بمعنى آخر، لن يكون أي نموذج GAN مناسبًا للاستخدام المعماري إن لم يقم أفراد خبيرين ومتخصصين بالعمارة بإنشاء هذا النموذج وتدريبه بشكل مناسب.
تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المجال المعماري
ماهي تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي يتم تطويرها حاليًا للمعماريين؟ وما التطبيقات المُحتمَلة في المستقبل؟ سأناقش جواب هذين السؤالين في هذا القسم.
ذكاء اصطناعي مساعِد في عملية التصميم
بدلًا من القلق والخوف من هذه التقنية، يمكننا النظر بشكل إيجابي للتطورات المتسارعة في أنظمة الذكاء الاصطناعي ضمن المجال الإبداعي. مثلما رأينا سابقًا، الذكاء الاصطناعي بدأ مؤخرًا في إنشاء الصور؛ التي تُعتبر عنصر رئيسي في التصميم المعماري، حيث لطالما اعتُبرت “الصورة” جوهر الممارسة المعمارية. فإذا كان الذكاء الاصطناعي قادرًا على إنشاء الصور وقياس مدى تعقيدها ، فإن تطبيقه على الإنتاج المعماري يعد امتدادًا طبيعيًا واستخدامًا منطقيًا لهذه التقنية.
حيث من المحتمَل أن يتم تطوير أدوات تصميم ذكية جديدة تتخطى إمكانيات البرامج التقليدية التي نعتمد عليها في يومنا هذا. بوصف أكثر تحديدًا؛ تصميم هذه الأدوات والبرامج بواجهة متجاوبة وسهلة للمستخدم دون تعقيدات، أو المساعدة في توليد فكرة تصميم مبدئية (Concept) عبر إعطاء وصف وأوامر نصية -عبر استخدام الشبكات التوليدية-. في الوقت الحالي هنالك أدوات ذكاء اصطناعي لديها ميزة توليد الصور عبر الأوامر النصية، من مثل Dall-E و Midjourney. ومن المحتمل أن يزيد عددها في المستقبل القريب.
أيضًا، من حيث المبدأ، يُمكن وضع مجموعة بيانات كبيرة من المخططات المعمارية المختلفة في خوارزمية تعلم آلي ليتم تعلم وتمييز الأنماط وأوجه التشابه بينها. أو حتى يمكننا استعمال الخوارزميات الجينية التي تأخذ مجموعة من العناصر والسمات، فتدمجها ثم تحوِّرها بناءً على عدد من الاشتراطات والقيود حتى يتم التوصل إلى النتيجة المرغوبة (يمكننا استخدام هذه التقنيات إما لزيادة الأمان أو الكفاءة والمساحة القصوى وما إلى ذلك). يجب تدريب النظام بقاعدة بيانات فعالة وذات صلة؛ كي يُصبح مساعِدًا يمكن الاعتماد عليه. أعتقد شخصيًا أن هذا المجال هو الذي سيتطور أكثر في العقود القادمة.
بعض النتائج من بوت الذكاء الاصطناعي Midjourney
i تصميم المساقط بواسطة التعلم المعزّز :ArchiGAN
تم إنشاء ArchiGAN بواسطة Stanislas Chaillou كأطروحة الماستر في هارفرد.
البرنامج يعمل على النحو التالي:
تكوين بصمة المبنى building footprint
إعادة تقسيم برنامج المخطط.
تخطيط الأثاث.


كل من الخطوات الثلاث السابقة تعتمد نموذج Pix2Pix GAN-model ، والتركيبة الناتجة منهم هي مخطط كامل بالأثاث يتيح للمستخدم إدخال مدخلات بكل خطوة.
يمكن أن يُستمد تخطيط بصمة المبنى من قطعة الأرض الواقع عليها، وبالتالي، قام ستانيسلاس بتغذية نموذجه الأول ببيانات GIS (نظام المعلومات الجغرافية) من مدينة بوسطن كي يتم إنشاء بصمات مبنى نموذجية بناءً على أشكال قطع الأرض.
كان النموذج الثاني لستانيسلاس مسؤولاً عن إعادة التقسيم والتثقيب (وضع النوافذ والأبواب). أخذ النموذج بصمة المبنى (مخرجات النموذج الأول) كمدخلات ، إلى جانب موضع باب المدخل (المربع الأخضر) ومواضع النوافذ المحددة من قِبل المستخدم.


استخدم ستانيسلاس قاعدة بيانات تدريبية تضم أكثر من 800 مخطط للشقق. لتصور الإخراج النهائي، تم تمييز الغرف بالألوان والجدران والنوافذ بالأسود.
أخيرًا ، في النموذج الثالث ، امتلأت الغرف بالأثاث المناسب، لكن ماهية بيانات التدريب التي استخدمها ستانيسلاس هنا لم يحددها في مقالته الأصلية.

قام ستانيسلاس بإنشاء أداة تفاعلية يمكنك من خلالها تجربة النموذج، اضغط هنا لزيارتها.
GAN Loci
يطبق هذا المشروع أيضًا شبكات GAN لتوليد صور مركّبة تلتقط الخصائص المرئية المهيمنة للأماكن الحضرية في المدينة.
لمعرفة تفاصيل أكثر عن النموذج، يرجى قراءة المقالة الأصلية هنا.

البناء بمساعدة الطائرات المسيَّرة (Drones)
بحثَ فريق من معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا إمكانية استخدام الطائرات المسيّرة في عمليات البناء [1].
إن إدارة شبكة من الطائرات المبرمَجة ذاتية التحكم التي تعمل على مهمة كالبناء يعد أمرًا صعبًا، خاصة إذا كانت تحمل كتل ومعدات ثقيلة، ولكن ربما الأبحاث المتزايدة في هذا المجال ستتيح إمكانية استخدامها في مواقع البناء الحقيقية.

أجهزة إنترنت الأشياء IOT بأنظمة معتمدة على الذكاء الاصطناعي
ربما قد سمعت مسبقًا عن أجهزة من مثل جوجل هوم والتي تُستخدم في المنازل، حيث تتحكم هذه الأجهزة الذكية بكامل البيت، من الأصوات والأضواء إلى التدفئة، من خلال أوامر صوتية. وحتى إن لم يتلقوا أي أوامر، فإن هذه الأنظمة ستزيد من كفاءة وراحة المنزل للمستخدم؛ بتقليلها للطاقة المستهلكة.
فاحص ومدقِّق نموذج المبنى معتمد على الذكاء الاصطناعي
من المؤكد أن عملية تصميم أي منشأة ليس بالأمر السهل، فهو عملٌ يتضمن مهام تكرارية ومضجرة؛ كالتحقق من ميلان سقف ما كي يتم تفريغ المياه بشكل سليم، أو التأكد من عدم تداخُل عنصر مع آخر، إلخ.. ولكن، ماذا لو تمكن برنامج ذكاء إصطناعي من مساعدتنا في هذه المهام المزعجة وتوفير الوقت لنا؟
من الممكن تطوير نموذج يتحقق من نماذج BIM ثلاثية الأبعاد للتحقق من الأخطاء، مثل:
اكتشاف التعارضات بين عناصر البناء Clash Detection.
استيفاء التشريعات والمعايير، على سبيل المثال؛ إمكانية وصول الأشخاص ذوي الإعاقة.
فحص نموذج البيم BIM بأكمله وتصنيف العناصر بشكل صحيح.
كما رأينا، يمكننا استغلال الذكاء الاصطناعي في أتمتة مختلف المهام المتكررة لتوفير الوقت لأمور أخرى.
حقل تجارب واعد
على الرغم من الإمكانات الواعدة التي سيجلبها الذكاء الاصطناعي لحقل الهندسة المعمارية، إلا أن الأمر يظل مرهونًا بقدرة المصمم على إيصال نواياه إلى البرنامج بشكل واضح.
طبعًا، لا يمكن للذكاء الاصطناعي أبدًا أتمتة الحس الإبداعي للمهندس المعماري وحدسه، الأفكار الديستوبية حول هيمنة الآلة على التخصص بأكمله هي أمر سخيف بلا شك. لنكن عمليين؛ علينا كأفراد الاستفادة من هكذا تقنيات ودراستها بجدية.
ناقشتُ في هذا المقال العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والهندسة المعمارية والتطبيقات المحتملة له في المستقبل القريب. وعلينا، كمعماريين، ألّا ننغلق على التقنيات الحديثة وإنما نُسارع إلى تعلّمها والاهتمام بها واعتبار مجالنا حقل للتجارب.
في ضوء الأمثلة المعروضة في هذا المقال، والمشاريع البحثية التي يتم تطويرها في الأوساط الأكاديمية أو فرديًا ، دعونا نعترف بأن الذكاء الاصطناعي في الهندسة المعمارية هو حقل ناشئ في مراحله التجريبية وفي طريقه ليُصبح مجال بحث فعلي.
بعيدًا عن اعتبار الذكاء الاصطناعي عقبَة جديدة للهندسة المعمارية ، أرى هذا المجال على أنه تحدٍ جديد مليء بالإمكانيات والوعود.
تعليقات